كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد تقدم في قوله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودًا} في سورة [الأعراف: 65].
وقوله: {ألا تتقون} يجوز أن يكون لفظ {أَلاَ} مركبًا من حرفين همزة استفهام دخلت على لاَ النافية، فهو استفهام عن انتفاء تقواهم مستعمل في الإنكار وهو يقتضي امتناعهم من الامتثال لدعوته.
ويجوز أن يكون {أَلاَ} حرفًا واحدًا هو حرف التحْضيض مثل قوله تعالى: {ألا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم} [التوبة: 13] وهو يقتضي تباطؤهم عن تصديقه.
والمراد بالتقوى: خشية الله من عقابه إياهم على أن جعلوا معه شركاء.
وجملة: {إني لكم رسول أمين} تعليل للإنكار أو للتحضيض، أي كيف تستمرون على الشرك وقد نهيتكم عنه وأنا رسول لكم أمينٌ عندكم.
وكان نوح موسومًا بالأمانة لا يتهم في قومه كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يلقب الأمين في قريش.
قال النابغة:
كذلك كانَ نوحٌ لا يخون

وتأكيده بحرف التأكيد مع عدم سبق إنكارهم أمانته لأنه توقَّع حدوث الإنكار فاستدل عليهم بتجربة أمانته قبل تبليغ الرسالة، فإن الأمانة دليل على صدقه فيما بلَّغهم من رسالة الله، كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله: هل جربتم عليه يعني النبي صلى الله عليه وسلم كَذِبًا، فقال أبو سفيان: لاَ ونَحْن منه في مدة لا ندري ما فعل فيها.
فقال له هرقل بعد ذلك: فقد عَلِمتُ أنه ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله.
ففي حكاية استدلال نوح بأمانته بين قومه في هذه القصة المسوقة مثلًا للمشركين في تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم تعريض بهم إذ كذبوه بعد أن كانوا يدْعونه الأمين، ويحتمل أن يراد به أمين من جانب الله على الأمة التي أرسل إليها.
والتأكيد أيضًا لتوقع الإنكار منهم.
وجملة: {وما أسئلكم عليه من أجر} عطف على جملة: {إني لكم رسول أمين} أي علمتم أني أمين لكم وتعلمون أني لا أطلب من دعوتكم إلى الإيمان نفعًا لنفسي.
وضمير {عليه} عائد إلى معلوم من مقام الدعوة.
وقوله: {فاتقوا الله وأطيعون} تأكيد لقوله: {ألا تتقون} وهو اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين.
وكرر جملة: {فاتقوا الله وأطيعون} لزيادة التأكيد فيكون قد افتتح دعوته بالنهي عن ترك التقوى ثم علل ذلك ثم أعاد ما تقتضيه جملة الاستفتاح، ثم علل ذلك بقوله: {وما أسئلكم عليه من أجر}، ثم أعاد جملة الدعوة في آخر كلامه إذ قال: {فاتقوا الله وأطيعون} مرة ثانية بمنزلة النتيجة للدعوة ولتعليلها.
وحذفت الياء من {أطيعون} في الموضعين كما حذفت في قوله: {فأخاف أن يَقتلونِ} [الشعراء: 14] في أوائل السورة.
وفي قوله: {إنْ أجري إلاّ على رب العالمين} إشارة إلى يوم الجزاء وكانوا ينكرون البعث كما دل عليه قوله في سورة [نوح: 17- 18] {والله أنبتكم من الأرض نباتًا ثم يعيدكم فيها ويُخرجكم إخراجًا} وتقدم ذكر نوح عند قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحًا} في [آل عمران: 33].
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)}.
جملة: {قالوا} استئناف بياني لما يثيره قوله: {كذبت قوم نوح} [الشعراء: 105] من استشراف السامع لمعرفة ما دار بينهم وبين نوح من حوار، ولذلك حكيت مجادلتهم بطريقة: قالوا، وقال.
والقائلون: هم كبراء القوم الذين تصدّوا لمحاورة نوح.
والاستفهام في {أنؤمن} استفهام إنكاري، أي لا نؤمن لك وقد اتّبعك الأرذلون فجملة: {واتبعك} حالية.
و{الأرذلون}: سَقَط القوم موصوفون بالرذالة وهي الخِسّة والحقارة، أرادوا بهم ضعفاء القوم وفقراءهم فتكبروا وتعاظموا أن يكونوا والضعفاءَ سواء في اتّباع نوح.
وهذا كما قال عظماء المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلم لما كان من المؤمنين عمَّار وبلال وزيدُ بن حارثة: أنحن نكون تبعًا لهؤلاء أطرِدْهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك.
فأنزل الله تعالى: {ولا تَطْرُد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} الآيات من سورة الأنعام (52).
وقرأ الجمهور: {واتَّبعَك} بهمزة وصل وتشديد التاء الفوقية على أنه فعل مضي من صيغة الافتعال.
والمعنى: أنهم كانوا من أتباعه أو كانوا أكثر أتباعه.
وقرأ يعقوب {وأتْبَاعُك} بهمزة قطع وسكون الفوقية وألف بعد الموحدة على أنه جمع تابع.
والمعنى: أنهم أتباعه لا غيرهم فالصيغة صيغةُ قصر.
وجواب نوح عن كلام قومه يحتاج إلى تدقيق في لفظه ومعناه.
فأما لفظه فاقتران أوله بالواو يجعله في حكم المعطوف على كلام قومه تنبيهًا على اتصاله بكلامهم.
وذلك كناية عن مبادرته بالجواب كما في قوله تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام {قال ومن ذريتي} [البقرة: 124] بعد قوله: {قال إني جاعلك للناس إمامًا} [البقرة: 124].
ويسمى عطفَ تلقين مراعاةً لوقوعه في تلك الآية والأوْلى أن يسمى عطف تكميل.
وأما معناه فهو استفهام مؤذن بأن قومه فصَّلوا إجمال وصفهم أتباعَه بالأرذلين بأن بينوا أوصافًا من أحوال أهل الحاجة الذين لا يعبأ الناس بهم فأتى بالاستفهام عن علمه استفهامًا مستعملًا في قلة الاعتناء بالمستفهَم عنه، وهو كناية عن قلة جدواه لأن الاستفهام عن الشيء يؤذن بالجهل به، والجهل تُلازمه قلة العناية بالمجهول وضعفُ شأنه، كما يقال لك: يهدّدك فلان، فتقول: وما فُلان، أي لا يُعبأ به.
وفي خبر وهب بن كيسان عن جابر ابن عبد الله أن أبا عبيدة كان يقُوتنا كلَّ يوم تمرةً فقال وهب: قلتُ وما تغني عنكم تمرة.
والمعنى: أي شيء علمي بما كانوا يعملون حتى اشتغلَ بتحصيل علم ما كانوا يعملون وأعمالهم بما يناسب مراتبهم فأنا لا أهتم بما قبلَ إيمانهم.
وضُمن {علمي} معنى اشتغالي واهتمامي فعُدّي بالباء.
و{ما كانوا يعملون} موصول مَا صدقه الحالة لأن الحالة لا تخلو من عمل.
فالمعنى: وما علمي بأعمالهم.
وهذا كما يقال في السؤال عن أحد: ماذا فعل فلان؟ أي ما خبره وما حاله؟ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للصبي الأنصاري: «يا أبا عمير ما فعل النغير» لطائر يسمى النُغَر بوزن صُرد وهو من نوع البلبل كان عند الصبي يلعب به، ومنه قوله لمن سأله عن الذين ماتوا من صبيان المشركين: «الله أعلم بما كانوا عاملين» أي الله أعلم بحالهم، فهو إمساك عن الجواب.
وقريب منه قول العرب: ما بَالُه، أي ما حاله؟.
وفعل {كانوا} مزيد بين مَا الموصولة وصلتِها لإفادة التأكيد، أي تأكيد مدلول ما علمي بما يعملون.
والمعنى: أي شيء علمي بما يعملون.
وليس المراد بما كانُوا عملوه من قبل.
والواو في قوله: {بما كانوا} فاعل وليست اسمًا لكان لأن كان الزائدة لا تنصب الخبر.
وشمل قوله: {بما كانوا يعملون} جميع أحوالهم في دينهم ودنياهم في الماضي والحال والمستقبل والظاهر والباطن.
والحساب حقيقته: العَدّ، واستعمل في معنى تمحيض الأعمال وتحقيق ظواهرها وبواطنها بحيث لا يفوت منها شيء أو يشتبه.
والمعنى: أن الله هو الذي يتولّى معاملتهم بما أسلفوا وما يعملون وبحقائق أعمالهم.
وهذا المقال اقتضاه قوله: {وما علمي بما كانوا يعملون} من شموله جميع أعمالهم الظاهرة والباطنة التي منها ما يحاسبون عليه وهو الأهم عند الرسول المشرّع، فلذلك لما قال: {وما علمي بما كانوا يعملون} أتبعه بقوله: {إن حسابهم إلا على ربي} على عادة أهل الإرشاد في عدم إهمال فُرصته.
وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا قالوها أي لا إله إلا الله عصموا منّي دماءَهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» أي تحقيق مطابقة باطنهم لظاهرهم على الله.
وزاد نوح قوله بيانًا بقوله: {وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين} وبيَّن هذا المعنى قوله في الآية الأخرى {الله أعلم بما في أنفسهم} في سورة هود (31).
والقصر في قوله: {إن حسابهم إلا على ربي} قصر موصوف على الصفة، والموصوف هو {حسابهم} والصفة هي {على ربّي}، لأن المجرور الخبرَ في قوة الوصف، فإن المجرورات والظروف الواقعة أخبارًا تتضمن معنى يتصف به المبتدأ وهو الحصول والثبوت المقدر في الكلام بكائن أو مستقِر كما بيّنه علماء النحو.
والتقدير: حسابهم مقصور على الاتصاف بمدلول {على ربّي}.
وكذلك قدّره السكاكي في المفتاح، وهو قصر إفراد إضافي، أي لا يتجاوز الكون على ربي إلى الاتصاف بكونه عليَّ.
وهو رد لما تضمنه كلام قومه من مطالبته بإبعاد الذين آمنوا لأنهم لا يستحقون أن يكونوا مساوين لهم في الإيمان الذي طلبه نوح من قومه.
وقوله: {لو تشعرون} تجهيل لهم ورغمٌ لغرورهم وإعجابهم الباطل.
وجواب {لو} محذوف دل عليه ما قبلَه.
والتقدير: لو تشعرون لشَعَرْتُم بأن حسابهم على الله لا عليَّ فَلَمَا سألتمونيه.
ودَل على أنه جهَّلَهم قولُه في سورة هود (29) {ولكني أراكم قومًا تجهلون} هذا هو التفسير الذي يطابق نظم الآية ومعناها من غير احتياج إلى زيادات وفروض.
والمفسرون نحَوْا منحى تأويل {الأرذلون} أنهم الموصوفون بالرذالة الدنية، أي الطعن في صدق إيمان من آمن به، وجعلوا قوله: {وما علمي بما كانوا يعملون} تبرُّؤًا من الكشف على ضمائرهم وصحة إيمانهم.
ولعل الذي حملهم على ذلك هو لفظ الحساب في قوله: {إن حسابهم إلا على ربي}، فحملوه على الحساب الذي يقع يوم الجزاء وذلك لا يثلج له الصدر.
وعطف قوله: {وما أنا بطارد المؤمنين} على قوله: {وما علمي بما كانوا يعملون} فبعد أن أبطَل مقتضى طردِهم صرح بأنه لا يفعله.
وجملة: {إن أنا إلا نذير مبين} استئناف في معنى التعليل، أي لأن وصفي يصرفني عن موافقتكم.
والمُبِين: من أبان المتعدي بمعنى بَيَّن ووضَّح.
والقصر إضافي وهو قصر موصوف على صفة.
وقد تقدم في سورة هود حكاية موقف لنوح عليه السلام مع قومه شبيه بما حكي هنا وبين الحكايتين اختلاف مَّا، فلعلهما موقفان أو هما كلامان في موقف واحد حكي أحدُهما هنالك والآخر هنا على عادة قصص القرآن، فما في إحدى الآيتين من زيادة يحمل على أنه مكمل لما في الأخرى.
{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)}.
لما أعياهم الاستدلال صاروا إلى سلاح المبطلين وهو المناضلة بالأذى.
والرجم: الرمي بالحجارة، وقد غلب استعماله في القتل به، و{من المرجومين} يفيد من بين الذين يعاقبون بالرجم، أي من فئة الدعّار الذين يستحقون الرجم، كما تقدم في قوله: {وما أنا من المهتدين} في سورة الأنعام (56).
وقوله: {إن قومي كذبون} تمهيد للدعاء عليهم وهو خبر مستعمل في إنشاء التحسر واليأس من إقلاعهم عن التكذيب.
والفَتح: الحُكم، وتأكيده ب {فَتْحًا} لإرادة حكم شديد، وهو الاستئصال ولذلك أعقبه بالاحتراس بقوله: {ونجني ومن معي من المؤمنين}.
و{المشحون}: المملوء.
و{ثُم} للتراخي الرتبي في الإخبار لأن إغراق أمة كاملة أعظم دلالة على عظيم القدرة من إنجاء طائفة من الناس.
وحذف الياء من قوله: {كذبون} للفاصلة كما تقدم في قوله: {فأخاف أن يقتلون} [الشعراء: 14].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)} الآية في قصة نوح دلالتُها على أن الله لا يقرّ الذين يكذّبون رسله، ففي هذه القصة آية للمشركين من قريش وهم يعلمون قصة نوح والطوفان. اهـ.